همباتيه باه- حارس ذاكرة أفريقيا ونافذة على تراثها الشفهي العريق

المؤلف: عطا المنان بخيت10.18.2025
همباتيه باه- حارس ذاكرة أفريقيا ونافذة على تراثها الشفهي العريق

يُعد أحمدو همباتيه باه قامة شامخة بين الأدباء والروائيين والمؤرخين الأفارقة، الذين تركوا بصمات فكرية وثقافية راسخة، أسهمت في تغيير الصورة النمطية السائدة عن القارة الأفريقية ومجتمعاتها الأصيلة. لقد صان هذا العلامة الفارقة تاريخ القارة السمراء وتراثها العريق، الذي حاول الاستعمار الغربي طمسه وتشويهه، زاعمًا أنها مجتمعات قاحلة، خالية من التاريخ والثقافة والحضارة.

يكمن السبب في ذلك الادعاء الباطل في كون التراث الأفريقي في أغلبه تراثًا شفويًا، ينتقل عبر الأجيال بصورة حكايات وقصص بطولية عن الأجداد، يرويها الشعراء ببراعة بلهجاتهم المحلية الأصيلة، وتتناقلها الأجيال في قالب قصص وأشعار وأغانٍ شعبية خالدة. وبالتالي، فإن من يفتقر إلى معرفة اللهجات المحلية الأفريقية، يعجز عن الغوص في أعماق هذا الكنز المعرفي الثري واستكشافه.

انكب همباتيه باه منذ يفاعته على دراسة الأدب والتراث الأفريقي الشفاهي وتحليله والغوص في تفاصيله، ثم قام بتدوينه ونقله إلى اللغات الحية، وعلى رأسها اللغة الفرنسية. وبهذا العمل الجليل، استطاع أن يبرهن للعالم أجمع أن لأفريقيا تاريخًا مجيدًا، وثقافة أصيلة، وجذورًا ضاربة في أعماق القدم، وأنها قدمت إسهامات جمة للبشرية جمعاء، ولكن بلسانها المحلي، وحافظت على هذا الموروث الحضاري والإنساني الضخم في ألحان وأشعار وملاحم بطولية تنتقل من جيل إلى جيل عبر الرواية الشفهية.

لقد خاض همباتيه باه معارك طاحنة على المنابر الدولية، وعلى رأسها منبر اليونسكو، بهدف التعريف بالموروث الشفاهي الأفريقي ونشره على نطاق واسع. وقد أطلق عليه اليونسكو عن جدارة لقب "العجوز المكتبة"؛ لما يختزنه عقله الوقاد من كنوز ثقافية واجتماعية هائلة عن تاريخ أفريقيا. وعلى الرغم من أن هذا الرجل الموسوعي قد كُتب عنه الكثير بلغات العالم المختلفة، إلا أن الكتابة عنه باللغة العربية لا تزال نادرة، وهذا المقال هو محاولة متواضعة لإلقاء الضوء على هذا الهرم الثقافي والتراثي الأفريقي الفريد من نوعه.

شعوب بلا حضارة

كانت مقولة "شعوب بلا حضارة" بمثابة الشعار المركزي الذي استند إليه الاستعمار الغربي لتبرير احتلاله للقارة الأفريقية. فالمستعمر، بجهله المطبق بتاريخ هذه القارة العريقة، ادعى زورًا وبهتانًا أن أفريقيا قبل الاستعمار كانت أرضًا خالية من أي مظهر من مظاهر الحضارة، وأن حملة الاستعمار الغربي للقارة لم تكن سوى عمل إنساني نبيل يهدف إلى تلقين شعوب هذه القارة مبادئ الحضارة والرقي.

وقد اعتنق هذا المنطق المغلوط العديد من الساسة والمفكرين والإعلاميين الغربيين، ودافعوا عنه ببسالة، وذلك لأن التاريخ الأفريقي كان تاريخًا شفاهيًا، يعتمد على اللغات المحلية في نقله وتداوله. بل وتجاوزوا ذلك بادعاء أن هذه الشعوب لم تكن تعرف معنى الحكم والسلطة المركزية، وأنها أقرب إلى الهمجية، وأن جيوش الاستعمار التي غزت القارة وجدت أرضًا خالية من السكان ومن أي نظام حكم، فاستولت عليها لبناء حضارة لأهلها وصناعة تاريخ مشترك لهم.

إلا أن هذه الحجة الواهية سرعان ما تصدى لها نخبة من المفكرين الأفارقة الأفذاذ، الذين قدموا حججًا دامغة أثبتت زيف هذا المنطق الأعوج. ومن بين هؤلاء المفكرين الأفارقة البارزين، يبرز اسم السنغالي البروفيسور الشيخ أنتا ديوب، الذي قدم في خمسينيات القرن الماضي أطروحته للدكتوراه تحت عنوان "الشعوب السوداء والحضارة"، والتي فند فيها تلك الادعاءات الاستعمارية.

وخلاصة رؤية الشيخ أنتا ديوب، الذي درس الحضارة النوبية القديمة في وادي النيل، هي أن أقدم حضارة عرفها العالم هي الحضارة النوبية، وأن النوبيين كانوا أفارقة سودًا، وبالتالي فإن أفريقيا السمراء هي مهد الحضارة البشرية القائمة اليوم. وعليه، فإن منطق الاستعمار الذي يزعم أنه جاء ليعلم الأفارقة الحضارة هو منطق زائف منافٍ لحقائق التاريخ والأنثروبولوجيا.

أما المفكر والباحث الاجتماعي الآخر فهو أحمدو همباتيه باه، الذي كرس حياته لدراسة الأدب الأفريقي الشفاهي وترجمته إلى اللغة الفرنسية وغيرها من اللغات الحية، وبرهن من خلال أعماله أن الأفارقة يمتلكون ثقافة وحضارة وتاريخًا ضارب الجذور في أعماق التاريخ، وبالتالي فإن حجة الغرب لتبرير الاستعمار هي حجة باطلة لا أساس لها من الصحة. فمن هو أحمدو همباتيه باه؟ وما هي إسهاماته؟

مدرسة تحت الأشجار

ولد المؤرخ والباحث الاجتماعي القدير، أحمدو همباتيه باه، في مطلع القرن العشرين، وتحديدًا في حوالي العام 1900/1901، في منطقة ماسينا، عاصمة مملكة الفولاني الشهيرة، والتي تقع في جمهورية مالي الحالية. نشأ في كنف أسرة نبيلة متدينة محافظة، شديدة الإخلاص والولاء للطريقة التيجانية الصوفية.

وكعادة أبناء جيله، تلقى تعليمه الأولي في حفظ القرآن الكريم، وتعلم الفقه والعلوم الشرعية واللغة العربية على يد شيخه الجليل الفقيه تشيرنو أبوبكر، الذي كان له بالغ الأثر في تكوينه والتزامه الصوفي العميق.

ثم التحق بالمدرسة الفرنسية، حيث أظهر نبوغًا وتفوقًا ملحوظًا، إلا أنه عارض بشدة إجبار الأفارقة على الانخراط في القتال إلى جانب المستعمر الفرنسي في الحرب العالمية الأولى. وتعبيرًا عن هذا الموقف الرافض، امتنع عن الالتحاق بالمدرسة الثانوية الفرنسية الوحيدة الموجودة آنذاك في جزيرة غوري بالسنغال.

وعقابًا له على هذا الرفض الصريح، تم نفيه إلى واغادوغو في مقاطعة فولتا العليا، التي تعرف اليوم باسم بوركينا فاسو. كانت واغادوغو في مطلع القرن الماضي مقاطعة نائية موحشة، حيث عمل همباتيه باه مترجمًا للحاكم الفرنسي هناك. وقد وصف همباتيه باه تلك الرحلة الشاقة من باماكو عاصمة مالي إلى واغادوغو وصفًا دقيقًا ومؤثرًا في مذكراته باللغة الفرنسية التي تحمل عنوان "نعم سيدي القائد".

في تلك المذكرات، حكى كيف كان الضباط الفرنسيون يمتطون صهوة الجياد الأصيلة، بينما الأفارقة يسيرون على أقدامهم أمامهم، وهم يحملون الأمتعة والمؤن. وقد لمس همباتيه باه عن كثب قسوة المستعمر ومعاملته المهينة للسكان الأصليين. كما كان يستمع بشغف إلى قصص وأهازيج العمال المرافقين للضباط الفرنسيين، والتي كانت تحكي تاريخ بلادهم العريق وقصص ملوكهم وأبطالهم الملهمة. ولعل هذه الرحلة كانت الشرارة التي أشعلت فيه جذوة الاهتمام بالأدب الشفاهي الأفريقي، وحفزته على تقديمه للعالم في صورة قصص وملاحم رائعة.

لقد كانت فترة عمله في واغادوغو منعطفًا هامًا في مسيرة حياته، حيث ساهمت بشكل كبير في تشكيل فكره، واكتشاف ذاته، وتحديد مساره. وقد استغل وقته الثمين في الجلوس مع زعماء القبائل والشيوخ والشعراء التقليديين والمغنين، والاستماع إليهم بإنصات وهم يسردون له تاريخ أسلافهم وأبطالهم والملاحم الكبرى التي خاضوها ببسالة.

تعمق همباتيه باه في الأدب الأفريقي الشفاهي وجمع تراثًا هائلاً، ونذر نفسه لنقل هذا التراث الثمين إلى العالم أجمع، باعتباره إرثًا للإنسانية جمعاء. وقد كتب عن تلك المرحلة المبكرة من حياته قائلاً: "لقد تعلمت وتخرجت في مدرسة الأدب الشفاهي الأفريقي العظيمة، وكنت أتلقى دروسي تحت ظلال الأشجار الوارفة".

في العام 1942، انضم كباحث إلى المعهد الفرنسي لدراسات أفريقيا السوداء في السنغال "إفان". ولا يزال هذا المركز حتى اليوم واحدًا من أهم مراكز البحث المتخصصة في القضايا الأفريقية، ويتبع الآن لجامعة دكار. في هذا المعهد، تجلت موهبته الفذة في كتابة التاريخ الأفريقي الشفاهي باللغة الفرنسية، ومن أبرز أعماله في هذه الفترة كتابه القيم عن تاريخ مملكة الفولاني في ماسينا، والذي يعتبر بحثًا رائدًا وغير مسبوق في تاريخ قبائل الفولاني.

على منبر اليونسكو

بعد استقلال بلاده، جمهورية مالي، في العام 1960، التحق بمنظمة اليونسكو في باريس، واستغل هذا المنبر الدولي الرفيع للدفاع عن الأدب الشفاهي الأفريقي، وقدم العديد من الإسهامات القيمة في هذا المجال.

لقد أثارت انتباهه الشديد قلة الإلمام بالتراث الأفريقي الشعبي، وذلك لأنه ميراث غير مكتوب، واستاء بشدة من وصف الكثير من الغربيين للأفارقة بالأمية والجهل، وعدم المساهمة في إثراء الموروث الثقافي الإنساني. فانتفض للرد على هذه المزاعم الباطلة، قائلاً: "نعم، قد نكون أميين لأننا لا نكتب، ولكننا لسنا جهلاء، فنحن أصحاب ثقافة وتراث وتاريخ وأدب وحكمة وإيمان، ولكننا نعبر عن كل ذلك بلغتنا المحلية التي عرفناها قبل قرون من معرفتنا للغة الغرب المستعمر".

وبدأ بحشد الدعم الأفريقي والدولي للحفاظ على التراث الأفريقي الشفاهي، وتصنيفه وتدوينه وحفظه للأجيال القادمة. وقال في هذا الصدد: "إذا كنا نؤمن بأن الميراث الإنساني لأي شعب هو ميراث للبشرية جمعاء، فإن التراث الأفريقي، إذا لم يجمع حالًا ويكتب على الورق، فإنه سيضيع يومًا ما من الأرشيف الإنساني الدولي". وقد أثمرت جهوده المضنية والمستمرة بأن تبنت منظمة اليونسكو برنامجًا ضخمًا لجمع وتدوين التراث الشفاهي والتاريخ الأفريقي، وترجمته وحفظه، على غرار برنامجها المعروف بالحفاظ على الآثار النوبية القديمة.

لقد بذل أحمدو همباتيه باه جهودًا جبارة من أجل إقناع اليونسكو بتبني برنامج لجمع وحفظ التراث الشفاهي الأفريقي. وفي سبيل ذلك، أطلق من على منبر اليونسكو عبارته الشهيرة: "إن موت عجوز أفريقي يعني احتراق مكتبة بأكملها". وقد لاقت هذه العبارة رواجًا واسعًا، وترجمت إلى العديد من لغات العالم الحية، واتخذتها اليونسكو شعارًا لبرنامجها الضخم لجمع وتدوين التاريخ والتراث الشفاهي الأفريقي.

ويعتبر هذا البرنامج بمثابة اعتراف وتقدير من العالم أجمع للدور الرائد الذي قام به أحمدو همباتيه باه، وتتويجًا للمهمة النبيلة التي نذر نفسه من أجلها منذ شبابه الباكر، وهي حفظ ذاكرة قارة كاملة من الضياع والاندثار. وقد نال العديد من الأوسمة والميداليات والنياشين العالمية الرفيعة تقديرًا لدوره البارز في حفظ التراث الأفريقي.

لقد أثبت أحمدو همباتيه باه في كتاباته الغزيرة أن أفريقيا تمتلك تاريخًا عريقًا وثقافة ثرية، وأنجبت زعماء عظامًا كان لهم دور فعال في إثراء الحضارة الإنسانية. وأظهر في مؤلفاته البعد الروحي العميق للثقافة الأفريقية، وتأثير الإسلام والطرق الصوفية على فكر وثقافة وحياة الإنسان الأفريقي العادي، بالإضافة إلى القيم الأفريقية السامية، مثل: الشجاعة، والكرم، والصدق، والتواضع. إنه بحق رجل يستحق كل الاحترام والتقدير.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة